و باتت مؤشراً حیاً علی حالة التردي المزمن و مسیرة التراجع المتواصلة في أوضاع هذه الثقافة و أجزائها أمام التطورات المتلاحقة و النهضات الکبیرة و الإبداعات المتمیزة للثقافات الأخری المنافسة لها ، و التي یقرر تاریخ العلاقة فیما بینها و بین الثقافة العربیة علی أنها کانت علاقةٌ قائمة علی التجاذب و التصارع أکثر من التفاعل و التلاقح ، لدرجةٍ یمکن معها القول أن محاولات احتوائها للثقافة العربیة إن لم یکن ابتلاعها لم تتوقف منذ دخولها (أي الثقافة العربیة) عصر الإنحطاط ، و منذ أن سکنتها نزعة التقلید و سیطرت علیها روح الجمود الفکري و ساد فیها الإهتمام بشکل الألفاظ و العبارات مقابل انحسار الإلتفات إلی المضامین و الأفکار.
لهذا غالباً ما نستند إلی مقولة «الشعر دیوان العرب» و نستشهد بها في حواراتنا و استدلالاتنا علی عراقتنا الحضاریة و تمیزنا الأدبي ، و بالتالي تفوقنا الثقافي علی الثقافات الأخری. وذلک نتیجةً لمنهجیةٍ اختزالیة في التفکیر و إسقاطیةٍ في التحلیل ترسخت في ممارستنا الفکریة و أدواتها العقلیة و المعرفیة ، دفعت بها عدة عوامل یتبوء العامل النفسي موقع الصدارة بینها ، بسبب حاجة الذات الملحة إلی تحقیق توازنها الداخلي الذي لا یمکنها الإستمرار في البقاء من دونه ، و الذي فقدته لما فقدت الثقة بحاضرها و بقدراتها ، فأصبحت تعیش في حالة من انعدام الوزن و اختلال التوازن تحت ظل التهدید المتواصل لکیانها الحضاري و الثقافي. منهجیةٌ تختزل الحضارة و الثقافة في اللغة ، و تختزل اللغة في الأدب ، و تختزل الأدب في الشعر ، وتسقط تصوراتها الرغائبیة علی معطیات الحاضر من خلال عدسة الماضي ، و تقرأ الماضي من منظار الحاضر ، فلا تری الأحداث و المجریات علی حقیقتها من حیث قواعد تبلورها و جذور تَشَکُلها ، و لا تفهم المعطیات و الأفکار وفقاً لمنطق صیرورتها و تاریخ تطورها ، و إنما تراها و تفهمها حسب تصوراتها الذهنیة المؤطرة برغباتها هي ، کما تریده أن تکون علیه لا بما هي علیه فعلاً ، و بما یتلاءم مع مسلماتها المسبقة و یتناسب مع منطلقاتها المنبثقة عنها ، و بما یحقق لها توازنها المطلوب و طمأنینتها المفقودة ، مما یجعل النظر في مصداقیتها و الإستفهام حول مدی حقیقتها ناهیک عن موضوعیتها أمرٌ یفرض نفسه بإلحاح علی بساط البحث.
فهل مازال الشعر حقاً دیوان العرب الذي کان؟ و هل یستطیع المضمر خلف هذه المقولة من أفکارٍ و رؤی و منطلقات ... الثبات أمام مجهر التحلیل المنطقي و مبضع النقد الموضوعي؟
سؤالان نحاول تقصي الإجابة عنهما بعینٍ متفحصةٍ ناقدة ، و بروحٍ عقلانیةٍ موضوعیة ، و برؤیةٍ تحاول تسلیط الضوء علی الجوانب الأخری للأشیاء ، من منطلق أن الحقیقة لا یمکن أن یحتکرها رأي واحد حتی و إن تَحَوَّط بهالة التقدیس و اکتسی بنزعة التعظیم ، کما لا یمکن أن یستوعبها جانبٌ واحدٌ من جوانبها مهما کان حجم الإعتقاد بأن ذلک الجانب ممتداً بجذوره عمیقاً في أرضها و ضارباً ساقهُ بقوةٍ في تربتها.

یوم کانت الثقافة شفهیة ...

وُلد الشعر العربي – المعروف منه علی الأقل – في بیئةٍ صحراویةٍ بدویة ، و علی رمالها الممتدة عبر أفقها الموحش و تلال کثبانها الراسیة في متاهاتها القاحلة... نشأ في أحضان أوضاعٍ إجتماعیة فرضت وجودها و تراکیبها طبیعة البیئة الصحراویة القاسیة ، و ترعرع تحت ظل منظومةٍ قیمیة مرتبطةً ارتباطاً عضویاً بالأوضاع الإجتماعیة السائدة و لها عالمها المحدود بحدود صحرائها و الذي طبع بطابعه رؤیتها الخاصة بالکون و الإنسان ، کما أنه نما و نضج في رعایة ثقافةٍ شفهیة تحتل اللغة فیها مکانةً فریدة لا توجد في غیرها من الثقافات ، و تشکل في وعي أصحابها مفهوماً مرکزیاً خلق بینها و بین الناطقین بها علاقةً من نوعٍ خاص ، لا تجد لها نظیراً في تاریخ الأمم و الثقافات من حیث الماهیة و العمق ، مثل ما هو الحال فی العلاقة بین الإنسان العربی و لغته ، و الإرتباط الوجودی بینهما ، فکانت المحصلة أن وجدت هذه الثقافة فی الشعر خیر أداةٍ لتدوین تاریخ مسیرتها و حفظ آثارها و تراثها ، و خیر معبرٍ عن انحیازاتها و قیمها و رموزها.
من رحم تلک الولادة، و من اجتماع عدید تلک العوامل ، إکتسب الشعر مکانته الأولی فی الثقافة العربیة ، فالبیئة الطبیعیة الصحراویة لشبه الجزیرة العربیة فرضت نمطاً معیناً من الإجتماع الإنسانی ، و أسالیباً فی العیش وسمت بمیسمها هیأة معظم الوجود العربي علیها. نمطٌ تجسد فی ذلک الإجتماع البدوی أو العمران البدوي کما أسماه العلامة «ابن خلدون» و الذی امتد أثره فاعلاً إلی مواطن الإستقرار الحضري المتناثرة في الصحراء الشاسعة و مؤثراً بها ، و صائغاً بالإشتراک معها مجمل التاریخ العربی قبل العصر الإسلامي ، و أحد الخصائص السیاسیة الهامة للحضارة العربیة الإسلامیة عبر جدلیة الصراع بین البداوة و الحضارة کما استخلصها ابن خلدون من خلال فلسفته للتاریخ العربی الإسلامي فی مقدمته الشهیرة.
هذا الأسلوب البدوي في العیش یقوم علی النظام الإجتماعي القبلي الذی تمثل القبیلة فیه وحدته السیاسیة و الإقتصادیة و محور نسیجه الإجتماعی ، و أبرز ما یمیزه الإرتحال المتواصل لها ، فی بحثٍ مستمرٍ عن مواطن الماء و الکلأ القلیلة و الشحیحة فی المناطق الصحراویة. هو ترحلٌ مستمرٌ یبعث به تمسکٌ لا یتوقف بأسباب الحیاة ، و یقف خلفه صراعٌ مستمرٌ من أجل البقاء ، مع الطبیعة احیاناً و مع أبناء الجنس الواحد و الأرومة الواحدة و العمومة الواحدة أحیاناً أخری. من المنطقي والمعقول إذن و الحال کذلک أن تؤدي تلک الأوضاع إلی إنتاج ثقافة شفهیة عامة لا تعتمد التدوین و لا تلجأ إلیه في طرائق معاش أصحابها و مختلف نواحي حیاتهم ، لتعذر توفر متطلباته التي تشترط الإستقرار و الثبات ، إذ یغدو بالنسبة لهم کنوعٍ من الترف لا یکون إلا في رحاب المدن أو المناطق الحضریة علی أقل تقدیر ، هم أبعد ما یکونون عنه. و من المنطقي ایضاً أن یؤدي ذلک بالنتیجة إلی اللجوء للذاکرة الفردیة لأبناء القبیلة کي تکون مستودع تاریخهم و مآثرهم و مستقر أنسابهم و رموزهم و سجل أفراحهم و أتراحهم مُشَکِّلَةً مخیالهم الإجتماعي و حافظةً ذاکرتهم الجمعیة من الضیاع ، تتناقلها الأجیال المتعاقبة جیلاً إثر جیل ، لا سیما إذا کانت اللغة بأسالیبها البیانیة و صیغها البلاغیة تمثل في عقلهم الجمعي خلاصة تمیزهم و قمة تطورهم ، الأمر الذي یظهر جلیاً من خلال إطلاقهم إسم «العجم» أو «الأعاجم» علی غیر العرب ، بما یحیل إلیه من دلالة عدم القدرة علی النطق التي تعد صفةً من صفات «العجماوات» و کأن من یتحدثون بلغةٍ غیر اللغة العربیة هم بمثابة العجماوات التي لا تنطق و لا تبین1. و تجدر الإشارة هنا إلی أن أفضل مدخلٍ یمکن بواسطته تحقیق فهماً أکثر دقةٍ و موضوعیة للکثیر من القیم العربیة و إدراک معقولیتها و استیعاب منطق أخلاقها یتجسد بالعودة إلی جذور منشأها و أصول تکوینها من خلال النظر في مدی تأثرها بالعامل الجغرافي المتمثل بالطبیعة الصحراویة و البیئة البدویة في صیرورتها الإجتماعیة و تفاعلاتها الثقافیة و أخذ ذلک کله بعین الإعتبار عند دراستها و البحث فیها.
کانت اللغة إذن بسبب تلک الظروف و العوامل خیر وسیلةٍ لحفظ الذاکرة الجمعیة من الضیاع ، و کان الشعر أفضل أدوات هذه الوسیلة ، إذ یُسَهِّلُ عبر أسالیبه القویة الجمیلة و قوافیه المتناغمة و أوزانه المتناسقة حفظ مختلف الحوادث و المجریات ، و یعبر في الوقت ذاته عن مختلف الأغراض الحسیة و النفسیة والفکریة ، الفردیة و الجماعیة. مستمدٌ منزلته و أهمیته من محوریة اللغة في الثقافة و فرادة النظر إلیها في الوعي الجمعي العام ، و من ضرورة الحاجة إلیه ، لیتطور من ثم – وفق منطق الأشیاء في تجاوز مواضعها التي تتواجد فیها إلی مواضع أکثر تقدماً متی توفرت الأسباب المساعدة علی ذلک – شاملاً جوانب الحیاة المختلفة في النظام الإجتماعي القبلي ، و مترسخاً فیها محوراً ثقافیاً و ملهماً قیمیاً ، تدور في فلکه ، أو تقبع بجاور هامشه و ترکن تحت ظله الأدوات و الفنون الأخری في الثقافة الشفهیة. و هو ما أشار إلیه ابن خلدون في المقدمة بقوله :«إعلم أن فن الشعر بین الکلام کان شریفاً عند العرب ، لذلک جعلوه دیوان علومهم وأخبارهم و شاهد ثوابهم و خطئهم و أصلاً یرجعون إلیه في الکثیر من علومهم و حکمهم ، و کان رؤساء العرب منافسین و کانوا یقفون بسوق عکاظ لإنشاده و عرض کل واحدٍ منهم دیباجته علی فحول الشأن و أهل البصر لتمییز حوله (مقدرته) حتی انتهوا إلی المناغاة في تعلیق أشعارهم بأرکان البیت الحرام موضع حجهم2».
من ناحیةٍ أخری فإن النظام الإجتماعي القبلي الذي تمثل القبیلة نواته السیاسیة و الإجتماعیة بالإضافة إلی الصراع الدائم مع قساوة البیئة الصحراویة التي خلقت صراعاً من نوعٍ آخر بین القبائل المختلفة حول موارد العیش و أسبابه کما ذکرنا سابقاً ، کل ذلک جعل من الشعر الناطق باسم القبیلة و الملهب الأول لحماستها و استنهاض عزیمتها و خط دفاعها الرئیس عنها و عن کیانها. یقول الجاحظ في هذا الصدد :«فکل أمةٍ تعتمد في استباق مآثرها و تحصین مناقبها علی ضربٍ من الضروب و شکلٍ من الأشکال ، و کانت العرب في جاهلیتها تحتال في تخلیدها بأن تعتمد في ذلک علی الشعر الموزون و الکلام المقفی ، و کان ذلک هو دیوانها3». و لأن الشعر کذلک فلقد تأسست به و من خلاله أهمیة الشاعر و ترسخت مکانته العلیا في المجتمع العربي القبلي ، فهو من کان یخلد مآثر قومه و یسجل مناقبهم و ینشر مفاخرهم ، و هو من کان یرهب أعداءهم و یتصدی لخصومهم ، بأسلوبٍ نابعٍ من تلک الأوضاع الإجتماعیة و الثقافیة ، و منبثقٍ من کون الشعر دیواناً شفهیاً تتناقله الرواة و تحفظه الأجیال. لهذا کانت القبائل العربیة یهنيء بعضها بعضاً إذا نبغ؛ بینهم شاعر ، و کانوا لا یهنئون إلا بثلاث : غلامٌ یولد أو شاعرٌ ینبغ أو فرسٌ تنتج.و کما یقول ابن رشیق : «کانت القبیلة من العرب إذا نبغ فیها شاعر أتت القبائل فهنأتها ، و صنعت الأطعمة و اجتمعت النساء یلعبن بالمظاهر کما یصنعون في الأعراس ، یباشر الرجال و الولدان أنه حمایةٌ لأعراضهم ، و ذب عن حسابهم و تخلید لمآثرهم و إشادة بذکرهم ، و کانوا لا یهنئون إلا بغلامٍ یولد أو شاعرٍ ینبغ فیهم أو فرسٍ تنتج4». و غنيٌ عن البیان القول أن هذه العناصر الثلاثة کانت حاجة تلک البیئة و مصدر قوة حیاتها ، لذلک صار الشاعر فیها بمنزلة الحکم و المرجع عند الإختلاف ، له الحکم الفصل و القول المسموع و الحکم المقطوع ، و غدی سلطةً مرجعیةً ، إجتماعیة و لغویة ، یُخشی من التعرض لها ، حتی أصبح مأثوراً القول :«لا ینبغي لعاقلٍ أن یتعرض لشاعر ، فربما کلمةٌ جرت علی لسانه فصارت مثلاً آخر الأبد».
لقد کان الشعر فعلاً دیوان العرب وأشرف الکلام عندهم ، و دوره المحوري و الأساسي و البارز في مناحي حیاتهم ، و مفاصل ثقافتهم لا شک فیه و لا غبار علیه ، و أکبر بکثیر من أن تثار حوله الشبهات أو أن یقلل من شأنه و قیمته ، إلا أن کل ذلک و کل تلک المقولات التي قیلت و تقال و تردد باستمرار إلی یومنا هذا حوله و حول دوره و مکانته ، یجب النظر إلیها من منطلق عوامل الجغرافیا و الطبیعة التي رافقت نشأته الأولی و طبعت صیرورته المجتمعیة و أثرت في تطوراته عبر مراحله الزمنیة المختلفة ، کما یجب قراءتها عبر سیاقاتها التاریخیة و الإجتماعیة.
و لقد کان الشعر حقاً دیوان العرب و منتهی حکمهم ، و أصلاً یرجعون إلیه في الکثیر من علومهم و حکمهم ، و کان فعلاً یرفع مکانة الشاعر بین الناس و ینسیهم عیوبه. لکنه بالمقابل أیضاً ، کل ذلک کان أیضاً یوم کانت الثقافة ثقافةً شفهیة ، و عند ما کان العصر عصر جاهلیة ، قبل بزوغ فجر الإسلام و اشعاع ضیائه الإنساني و تدفق مجری نهره الحضاري...
فهل ظلت مکانة الشعر و دوره في الحیاة و المجتمع و الثقافة کما هي ضمن الرؤیة الحضاریة للإسلام؟ أم أن ریاح التغییر و الإصلاح الحضاري الإسلامي طالتها کما طالت مختلف نواحي الحیاة التي کانت سائدة قبله؟
هذا ما سوف نحاول استقصاءه و سبر أغواره و استجلاء أبعاده ، في مقامٍ آخر یتفصل فیه المقال... ذلک أن لکل مقامٍ مقال ، و مقامنا انتهی عند هذا الجزء من الموضوع ، لیتجدد فیه القول عند مقامٍ آخر .. في مقالٍ آخر .. له قولٌ آخر.

  وشکـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرا"